في مشهد ساخر من فيلم (الساحر) يريد محمود عبد العزيز أن يربي حصانًا في شقته الضيقة، ويطلب من سائس خيول أن يعنى به. سائس الخيول هو ذلك الممثل العجوز العبقري فتوة (ساعة لقلبك) الذي توفاه الله والذي لا أستطيع تذكر اسمه، ولا تطالبني بأن أتصل ببلال فضل في هذه الساعة المتأخرة لأسأله.. يطلب السائس من محمود عبد العزيز أن يوفر للحصان مساحات خضراء يرمح فيها، فيكون رد محمود: "اتصرف .. ما احنا عايشين من غير غيطان ومتنيلين أهه ..". فيقول السائس عبارة عبقرية السخرية: "أصل دي حيوانات حساسة .. مش زينا !"ـ
نعم .. نحن حيوانات غير حساسة .. هذا صحيح. لا يوجد حصان يحترم نفسه يتحمل أن يعيش في شقة ضيقة أو عشة في العشوائيات أو خيمة إيواء أمامها جبل قمامة ويخرج لعمله وسط المجاري الطافحة، بينما نحن أثبتنا أننا قادرون على الحياة بعد ما أكلنا الورنيش الأسود والفورمالين والسيراميك المطحون والخضر المسرطنة واللحوم الفاسدة التي تخلص منها الاتحاد الأوروبي والطيور الجارحة .. قادرون على الحياة في أية ظروف .. راجع عدد الحيوانات التي هلكت في حديقة الحيوان كما نشرت الدستور، لتعرف أن هذه الحيوانات الحساسة لم تتحمل ظروف القذارة وقشر البطاطس الذي يطعمونه للدببة واللحم الفاسد الذي تأكله الأسود، دعك من الذين يسطون على الجمال ليسرقوا لحم هذه الكتف أو تلك . جرب أن يتسرب أي نوع من التلوث لحوض أسماك الزينة وراقب كيف تطفو الأسماك ميتة على السطح بعد ربع ساعة .. نحن لا نطفو ميتين لأننا لسنا حيوانات حساسة
عندما قابلت للمرة الأولى ذلك الصديق القادم من قطر من أجل إنهاء بعض الأعمال، وجدت أنه يقيم في جناح فاخر في فندق مهم بالقاهرة .. إنه في الثلاثين من عمره، وبرغم هذا هو مخول بإجراء صفقات تجارية مهمة جدًا لبلاده . الانطباع الذي أخذته عن قطر ودبي هو أنهما بلدان غير مثقلين بأثقال التاريخ والريادة والأبوة والأمومة، وإنما هما على استعداد دائم للتطور والتغيير والتعلم. عندما يتضخم كبرياؤك وتعتقد أن الآخرين لا يمكن أن يعلموك أي شيء فأنت تنهار بسرعة لا تصدق. وقد رحب بي وجلس يحكي لي انطباعاته عن مصر ..ثم قال لي فجأة
ـ"حياتكم قاسية جدًا هنا .. لا أعرف كيف تتحملون هذا كله !"ـ
ذات الكلمة قالتها لي منذ أعوام سائحة هندية مرهقة حمراء العينين حافية القدمين في مطار الأقصر تنتظر إقلاع طائرة مصر للطيران التي تأخرت عشر ساعات ! كان زوجها الهندي العجوز الأشيب جالسًا يطالع في نهم كتاب (ماذا حدث للمصريين ؟) لـ (جلال أمين) مترجمًا للإنجليزية، وقد بدت عليه ملامح ممارس اليوجا الذي يحاول ألا ينفعل. وددت لو قلت لها إننا حيوانات غير حساسة، لكن فيلم (الساحر) لم يكن قد عرض بعد، لهذا لم تخطر بذهني هذه العبارة
قالت لي السائحة
ـ"يخيل لي أنه لا أحد في بلادكم عنده إحساس بالمسئولية !"ـ
ابتلعت الإهانة في صمت، فأنا لن أدافع عن هؤلاء القوم الذين يعتقدون أنهم يتقاضون أجرهم مقابل تدمير السياحة في مصر.. وابتلعت فكرة أن هذه السائحة سوف تعود لبلدها كي تحكي لهم عن معاملة العبيد التي عوملت بها في مصر
كان كل شيء في المطار يوحي بالتخبط والارتباك واللا مبالاة .. كل شيء قاس مرير، وقد رأيت مواقف ميكروباص أكثر نظامًا والتزامًا
منذ أيام وصلني خطاب من البنك يقول: "نرجو الحضور إلى قسم الائتمان بمجرد وصول هذا الخطاب للأهمية " . كل هذا جميل لكن الخطاب أرسل منذ شهر ونصف !.. شهر ونصف كي يصل الخطاب من البنك إلى بيتي، وهي مسافة تقدر بخمسمائة متر لو كان الخطاب يمشي على قدميه ويعاكس البنات ويجلس على المقاهي . تشكو في البنك فيقسمون أنهم أرسلوا الخطاب فور توقيعه، ويقول المحاسب الشاب ضاحكًا: "انت عارف البوسطة بقى .. هيء هيء .." .. كأنه من الطبيعي جدًا أن يتأخر الخطاب 45 يومًا، ولو شكوت فلمن ؟.. النتيجة أنك تبتلع غيظك وتنسى الأمر
من المعجزات الحقيقية أن يصل القطار في موعده .. تسأل في المحطة فينظر الموظف للسماء في تصوف ويقول: "ربنا يسهل .." كأننا نتحدث عن رزق قد يأتي أو لا يأتي. أقسم بالله أنني انتظرت القطار الأسباني الذي يتحرك من طنطا إلى القاهرة في الثانية عشرة والنصف .. انتظرته ذات مرة حتى الثانية والنصف !.. وعندما سألت في مكتب المعاونين قيل لي إنه ما زال في دمنهور ! هكذا أعدت التذكرة وأنا أتصور النشاطات الليلية الغامضة التي كان يمكن أن أقوم بها في القاهرة لو انتظرت القطار !.. صار من الطبيعي جدًا والرائع ألا يتأخر القطار أكثر من نصف ساعة .. لا أعرف ما يفعله الطلبة الذين هم ذاهبون إلى الامتحان.. يقيمون في القاهرة على سبيل الاحتياط ؟.. هل تضمن أن تصل لمكان ما في القاهرة ؟.. ربما يعتصمون بالكليات طلبًا للمزيد من الاطمئنان
كل يوم يؤكد أن مرفق السكة الحديد انهار أو كاد، والأدهى أن أسعار التذاكر تتواثب، لكنهم جميعًا مطمئنون إلى أن زبون القطار سوف يأتيهم حتى لو صار سعر التذكرة مائة جنيه والقطار يتأخر عشر ساعات .. إننا حيوانات غير حساسة لا تؤذيها هذه التفاصيل
يصعد الميكروباص على ظهر معدية فيسقط في الترعة بمن فيه من بؤساء ..دعك من طقوس العيد الدائمة عندما تغرق المعدية ذاتها بمن فيها .. عمارة في الاسكندرية تنهار على سكانها بالكامل .. لا أعرف لماذا يموت المصريون عندما تقع الحوادث بهذه الكثافة .. لا يمكن أن تسمع عن عدد قتلى أقل من الثلاثين في أي شيء كأننا دجاج (يفطس) .. لا يمر أسبوع من دون طفل تفترسه شبكة المجاري السعيدة .. كأننا نعيش حربًا ضروسًا لكن العدو من داخلنا نحن .. تتأخر سيارات الأتوبيس على الحجاج المصريين فيتظاهرون وتقع حالات وفاة في البعثة المصرية
هناك مجموعة صور متداولة جدًا على شبكة الإنترنت والمجموعات البريدية تحمل غالبًا عنوان (تبقى انت أكيد في مصر)، وهي مجموعة فريدة فعلاً من الصور التي لا يمكن تصديقها .. الحمار الذي تم تحميل عربته أكثر من اللازم فمالت وصار معلقًا في الهواء .. الرجل الذي يجلس على جهاز تكييف ليصلحه في الطابق السابع .. السيارة التي التوت قوائمها فكاد سقفها يلمس الأرض وبرغم هذا تمشي .. الشاحنة المحشورة تحت كوبري، والرجل الذي وضع في سيارته مفاتيح (ماجيك) من التي تستعمل في البيوت
هذه الصور توحي لك فعلاً بأننا حيوانات .. لكننا حيوانات غير حساسة مثل حصان (محمود عبد العزيز)، بل هي قادرة على قبول أي شيء والتكيف مع أي وضع .. فقط ليكن هذا بالتدريج وببطء، تصديقًا لمقولة (ألبير كامي) في (الغريب): "اكتشفت أن كل وضع قابل للتعود عليه، حتى أنهم لو حبسوني في برميل لرحت أراقب السحب وأخمن شكل السحابة القادمة". ربما كان كامي من الحيوانات غير الحساسة مثلنا. كان يؤمن بأن القضية الفلسفية الأكبر هي الانتحار، فماذا كان سيقول لو رأى حالنا اليوم ؟