تذاكر جماعةٌ فيما بينهم آثار معن (من أشهر أجواد العرب) وأخبار كرمه، معجبين بما هو عليه من التُّؤَدة ووفرة الحلم، ولين الجانب، وغالوا في ذلك كثيرا؛ً فقام أعرابي، وأخذ على نفسه أن يُغضِبه. فأنكروا عليه، ووعدوه مائة بعير، إن هو فَعَل ذلك.
فَعمَد (قصد) الأعرابيُ إلى بعير فسلخه، وارتدى بإهَابه (الجلد الذي لم يدبغ) واحتذى ببعضه جاعلاً باطنه طاهراً، ودخل عليه بصورته تلك، وأنشأ يقول:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة... وإذ نعلاك من جلد البعير
قال معن: أذكره ولا أنساه! فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً... وعلمك الجلوس على السرير!
فقال معن: إن الله يُعز من يشاء ويذل من يشاء، فال الأعرابي:
فلست مسلِّماً إن عِشْتُ دهراً... على معن بتسليم الأمير
فقال معن: السلام خير، وليس في تركه ضير(الضرر)، فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلادٍ أنت فيها... ولو جار الزمانُ على الفقير
فقال معن: إن جاورتنا فمرحبا بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة
فقال الأعرابي:
فَجُدْ لي يا ابن ناقصةٍ بمال... فإني قد عزمت على المسير
فقال معن: أعطوه ألف دينار، تخفف عنه مشاق الأسفار، فاخذها وقال:
قليل ما اتيت به وإني...لأطمع منك في المال الكثير
فثنِّ فقد أتاك الملْكُ عَفْواً... بلا عقل ولا رأي منير
فقال معن: أعطوه الفاً ثانياً، كي يكون عنا راضياً، فتقدم الأعرابي اليه، وقبَّل الأرض بين يديه وقال:
سألتُ الله أن يبقيك دهراً... فمالك في البرية من نظير
فمنك الجودُ والإِفْضَالُ حقاً... وفيضُ يديك كالبحر الغزير
فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين، فليعط أربعة على مدحنا
قال الأعرابي: بأبي أيها الأمير ونفسي! فأنت نسيجُ وحدك في الحلم، ونادرةُ دَهرِك في الجود ( وإنك لعلى خلق عظيم). ولقد كنت في صفاتك بين مصدِّقٍ ومُكَذِّبٍ، فلما بَلّوْتُك صَغَّر الخُبْرُ(المخبر) الخبر، وأذّهَبَ ضعفَ الشكِّ قوةُ اليقين، وما بعثني على ما فعلتُ إلا مائة بعير عِلتْ لي على إغضابك.
فقال له الأمير: لا تثريب عليك! ووصله بمائتي بعير: نصفها للرهان والنصف الآخر له، فانصر الأعرابيُ داعياً له، شاكراً لهباته، معجبا بأناته.